جميل بثينه
وقد لحق بقيس ابن الملوح جميل بن معمر
وحبيبته بثينه
ومن هذا الشاعر نتعرف على ارقي نمازج الحب
العذري واصفها وأصدقها وترا
وأشدها حرارة ، وهو شعر يمتلى بشكاوي النفس
وما يلاقيه المحب المتيم من
تباريح الوجد وقسوة البعد ومرارة الحرمان ولكن
مع ذلك صادق اللوعة ، عف
الضمير واللسان ‘ رصين التعبير غني القلب
مرفوف الحي والشعور . ثم هو
شاعر عاشق يرضى من محبوبته بالقليل ، بل اقل
القليل وقد نجده انه دائم
الحديث عن بخل حبيبته . ولكنه حديث الرضي
المستسلم لا يسخط ولا يغضب ولا
يتمرد ولا يهدد ولا يتوعد أو يثور ، وإنما
هو مكتف بمجرد الاشاره الي بخل
بثينه بكل ما من شانه يملاء حياته نعيما
وبهجة ، بخلها بالوصال .
ويحدثنا التاريخ أن جميل بن عبد الله بن
معمر العذري قد سبت فؤادة بثينه
بنت حبا بن جن بن ربيعة العذري . فالشاعر
وحبيبته ينتميان لشجره واحدة
في النسب ويقيمان معا في مكان واحد هو وادي
القري وهو موضع في الحجاز
قرب المدينة
وكما حدث لقيس بن الملوح وليلاه بعد أن ذاعت
قصة حبهما وتناقلت أخبارهما
الركبان ، فحرمت عليه وزوجت غيره ، حدث هذا
لجميل وبثينه بعد أن ذاع
شعره فيها وهيامه بها ، وتحدث به الناس في
القبيلة وخارج القبيلة حتى
إذا جاء جميل إلى أبيها خاطبا ورفضه أبوها
خشية أن يقال انه زوجها ستر
لعارها . وتزوجت بثينة إلي فتي من عذره : هو
نبيه بن الأسود ، ولكن
زواجهما لا يمنع جميلا عنها ، فهو يزورها
خفية في بيت زوجها ، ويقول فيها
القصيدة بعد القصيدة ، وهي تساعدة أحيانا ثم
تصد عنه أحيانا أخري ، وهو
في الحالين مستطار اللب طائر العقل ، مسلوب
القلب وتمضي الأيام ويدب
اليأس في قلب جميل ، فيهاجر إلى مصر ويمرض
فيها مرضة الأخير .. حتى إذا
حضرته الوفاه كانت أخر كلماته من اجل بثينه
حبا وتذكرا وتعلقا ووفاء (
ما أجمل الوفاء يا من تحبون ) حتى الرمق
الأخير ، ويموت جميل سنة اثنين
وثمانون للهجره . ويبقي من بعده صوته الشعري
المتوهج بالحرارة والصدق ،
ينطق بعذريته وصدق حبه ومكابدته ..
ألا إنها ليست تجود لذي الهوى**** بل البخل
منها شيمة وخلائق
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا**** سوى أن
يقولوا إنني لك عاشق
نعم صدق الواشون انت كريمة **** على وان لم
تصف منك الخلائق
أحبابي إليكم اشهر قصائد جميل و أطولها ولكني
سآتيكم بمقتطفات منها وهذا
الغزل العذري على لسان جميل إضرابه أعمق
التأثير في النفس شديد أثاره
للعاطفة وهو غزل لا يتوقف عند مجرد التشبيب
بمحاسن المرآة ومفاتنها –
على عادة الشعر العربي القديم – وإنما هو
يتجاوز ذلك إلى الامتلاء الروحي
بنفس الشاعر ومشاعره وآلامها وآمالها ، والتعبير
عن الطبيعة العفة
الصادقة للحب التي تربطه بحبيبته التي وقف
عليها قلبه دون سائر النساء .
ويقول جميل
ألا ليت ريعان الشباب جديد**** ودهر تولي – يابثين – يعود
فنبقي كما نكون ، وانتمو**** قريب واذا ما تبذلين زهيد
خليلي ما ألقي من الوجد باطن **** ودمعي بما أخفي الغداه – شهيد
إذا قلت ما بي يا بثينه قاتلي **** من الحب ، قالت : ثابد ويزيد
وان قلت ردي بعض عقلي اعش به**** تولت وقالت: ذاك منك بعيد
فلا انا مردود بما جئت طالبا **** ولا حبها فيما يبيد يبيد
وقلت لها : بيني وبينك فاعلمي **** من الله ميثاق له عهود
وأفنيت عمري بانتظارِ وعدها **** وأبليت فيها الدهر وهو جديد
ويحسب نسوان من الجهل أنني **** إذا جئت إهين كنت أريد
فاقسم طرفي بينهن فيستوي **** وفي الصد بون بينهن بعيد
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة **** بوادي القري إني إذن لسعيد
وهل اهبط أرضا تظل ريحها **** لها بالثنايا القاويات وئيد
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها **** ويحيا إذ فارقتها فيعود
يقولون : جاهد يا جميل بغزوه **** وأي جهاد غيرهن أريد
لكل حديث عندهن بشاشه **** وكل قتيل عندهن شهيد
علقت الهوى منها وليدا فلم يزل **** الي اليوم حبها ينمي حبها ويزيد
فهل ألقين ببثينه ليلة **** تجود لنا من ودها ونجود
من كان في حبي بثسنه يمتري**** فبرقاء ذي ضال على شهيد
وهكذا حكم على جميل كما حكم على قيس
******
ونرحل مع قصة من قصص الحب العذري
وهي قيس ابن ذريح بن الأحباب بن سنه وينتهي
نسبة إلى حزيمة من عرب الشمال
ويقولون انه من أعراب الحجاز ، أما لبني هذه
التي تغنى بها قيس ، وصار
منسوبا أليها ، فهي لبني بنت أحباب أم معمر
، من بني كعب من خزاعة ،
يصفونها بأنها كانت مديدة القامة ، يخالط سواد
عينها زرقة ، حلوه المنظر
والكلام ويقولون أنها كانت بهية الطلعة ، عذبه
الكلام سهله المنطق .
واعذروني أن اختصرت القصة فهي شيقة جدا يحبها
كل قلبا يملى روحة الحب
والحنان والطيبة والعطف
إليكم القصة :
في أحد زيارات قيس لأخواله ، اشتد به الحر
فشعر بالظمأ ، فوقف على خيمة
والرجال غائبون ، فطلب ماء فبرزت له لبنى
فسقته وأعجب بها ، وطلبت له أن
يستريح عندهم حتى تخف وطاه القيظ( الصحراء)
فلبها وتحادثا ، فملكت عليه
فؤاده . وملك عليها فؤادها ، وقدم أبوها فرحب
به ونحر له ، واحتفي
وأكرمه . وانصرف قيس وقد غلب عليه الهوى .
فأنطقه شعر ورواه الرواة ،
وشاع في المجالس .
ونأتي هنا كي نقول أن الحب العذري قد وصل
إلى اللقاء وهذا شئ كبير ؟
وتزوج قيس من لبني ويجتمع شمل المحبين ،
ويقيمان أمدا في ظل السعادة
ورفاه وهناء متصل . ولكن قيسا وحيد والدية
الثريين – ينسيه حبه للبني
وزواجه منها كل شئ أخر في حياته .فتغضب أمه
لما ترى من اغتصاب امرأة
أخري له فتكيد لزوجته وتتفنن في الإيقاع
بينهما .. وخاصة
أن لبني لم تنجب من قيس ويستمر الحال على
هذا عشر سنوات ، ويجتمعون عليه
أبوه وقومة ناصحين له بالزواج من أحد بنات
عمه لعل الله يهب له ولد يرث
ثروة الأسرة من بعدة . ولا يستجيب لهما قيس ..
فيأتيه القوم يعظمون عليه
الأمر حتى استطاعوا أن يجعلوه يطلق لبني
فيطلقها . في لحظة ضعف قاتله .
ثم لا يلبث قيس أن يستشعر وقع الفجيعة ،
فجيعته في حبه ويحس بالفراغ الذي
خلفته لبني في حياته ، واللوعة التي ملكت كل
جوانحه فينطلق لسانه
بالأشعار الباكية .
ونحن هنا نقف إمام قصة من قصص الحب العذري
بطلها عاش مستهل القرن الأول
الهجري – فالروايات تذكر لنا أن قيسا ولد
بين عامي أربعة وستة للهجرة
واختلطت قصتهما بما تمتلي به من حكايات الأشعار
. ونجد في شعر قيس لبني
مقطوعات ينتزعها مع مجنون ليلي ‘ فضلا عن
قصائد أخري ينتزعها مع جميل
وبثينه وابن الدمينة وكثير عزة وعروه بن حزم .
اما في شعر قيس بن ذريح ما نجدة في شعر
العذريين من رقه وجزاله وعاطفة
صادقة مشبوبه .. و أطول قصائدة واشهرها هي
قصيدته العينية والتي نطالع
فيها صوره صادقة لحبة العميق للبني متظمنة ندمة
( كما قلت لكم الحب
العذري يخلو من الندم ) ؟
ولوعته بعد طلاقها ولكن هيهات ينفع الندم ،
إن خلاصه الوحيد في
البكاء ..وبث شجونه ولوعة هيامه خلال أبيات
يرسلها وقد حملت زفرات من
سعير قلبه حرارة معاناته .
ويقول قيس في طلعها .
عفا سرف من اهله فسراوع **** فجنبا أريك
فالتلاع الدوافع
لعل لبني أن يحم لقاؤها **** ببعض البلاد أنا
ما حم واقع
بجزع من الوادي خلا عن انيسه **** عفا وتخطة
العيون الخوادع
ولما بدا منها الفراق كما بدا **** بظهر
الصفاء والصلد الشوق الشوائع
اتبكي على لبني وأنت تركتها **** وكنت كآت غيه
وهو طائع
فلا تبكين في إثر شئ ندامة**** إذا نزعته من
يديك النوازع
فليس لأمر حاول الله جمعه **** مشت ولا ما
فرق الله جامع
وكيف ينام المرء مستشعر الجوى **** ضجيع الاسي
فيه نكاس روادع
فلا خير في الدنيا إذا لم توتنا **** لبني ،
ولم يجمع لنا الشمل جامع
ألست لبينى تحت سقف يكنها **** وإياي هذا إن
نات لي نافع
فقد كنت ابكي والنوى مطمئنة **** بنا وبينكم من
عالم ما البين صانع
فيا قلب صبرا واعترافا لما ترى **** ويا حبها
قع بالذي أنت واقع
أحل على الدهر من كل جانب **** ودامت فلم
تبوح على الفجائع
فمن كان محزونا غدا لفراقنا **** فملآ قلبك لما
هو واقع
وهكذا استطاع الواشون أن يبعدو قيس عن حبيبته
لبني وها هو يتجرع ما قد
تجرعة من سبقه من عاش الحب
،ويكتب عليهما القدر الفراق
المرير والبكاء الطويل .